التأمين الإسلامي
تقوم فكرة التأمين على أساس المشاركة مع الآخرين ] المشتركون في نظام التأمين[ في توزيع عبء الأضرار الناجمة عن الخطر عند وقوعه على مجموع المشتركين بدلا من أن تبقى على كاهل المتضرر بمفرده، وذلك بهدف تخفيض قيمة الخسائر المادية والآثار السلبية المترتبة على وقوع ذلك الخطر .فكرة التأمين هذه تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها التي تدعوا إلى التكافل والتعاون الإنساني، فلا تعارض، وإنما التعارض برز عند صياغة هذه الفكرة في نظام وعقد قانوني يندرج تحت ما يُسميه الفقهاء: عقود المعاوضات، أي في كونه علاقة تعاقدية بين المُؤَمِّن ( شركة التأمين) والمُؤمَّن له ( العميل ) .
فإطار العمل التشغيلي لنظام التأمين التجاري يتعارض كليا مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تدعوا إلى الوضوح والتعادل والتوازن بين طرفي العقد، حتى لا يطغى طرف على آخر ويُثري على حسابه بمعادلة ظالمة، وهذا ما يفتقده تماما عقد التأمين التجاري
فإطار العمل التشغيلي لنظام التأمين التجاري يتعارض كليا مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تدعوا إلى الوضوح والتعادل والتوازن بين طرفي العقد، حتى لا يطغى طرف على آخر ويُثري على حسابه بمعادلة ظالمة، وهذا ما يفتقده تماما عقد التأمين التجاري
نشأة وتتطور العملية التأمينية
أولاً : نشأة فكرة التأمين
لقد عرفت البشرية نظام التأمين منذ قِدَمِ التاريخ، وذلك في صورة التكافل والتعاون بين أفراد المجموعة الواحدة لمواجهة التكاليف المالية التي تترتب عند وقع ضرر وحدوث خطر ما على فرد منها، وهذه التبعة المالية ثقيلة ومرهقة بالنسبة للفرد الواحد، خفيفة ومقبولة إذا وزعت على مجموع الأفراد، .وهذا النظام الإنساني يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، فالمؤرخ ابن خلدون ذكر في "مقدمته" أن التجار العرب الذين كانوا يُسيّرون قوافلهم التجارية في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن، كانوا يتفقون فيما بينهم على اقتسام الخسارة التي تلحق أيًّا منهم نتيجة نفـوق ـ موت ـ جمله، فيقومون بتوزيع الخسارة على كافة أعضاء القافلة. وجميع صور للتأمين كانت تعتمد مبدأ التكافل كأساس، وليس مبدأ الربح كما هو الحال في التأمين التجاري المعمول به في صورته الحالية .
ثانيا : بداية الانحراف
يذكر التاريخ أن التأمين البحري أو ما كان يُعرف بـ "القرض البحري" هو أول شكل ونوع من أنواع التأمين الربحي ( التجاري )، وصورته: أن يقوم صاحب المال المرابي بإقراض صاحب سفينة تعزم على الإبحار مبلغاً من المال يوازي قيمة السفينة وما تحمله من بضائع، وذلك نظير فوائد ربوية، فإذا وصلت السفينة سالمة إلى غايتها، رَدَّ صاحب السفينة القرض إلى المرابي مع فوائده الربوية، وإذا هلكت السفينة وما عليها من بضائع، خسر المرابي نقوده التي أقرضها مالك السفينة .
ويلاحظ أن عقد التأمين التجاري المعمول به حاليا نشأ وانطلق من عقد القرض البحري، فأركان العملية التأمينية في نظام التأمين التجاري الحالي، وهي:
1) وجود طرفي العقد، الطرف الأول: المؤمِّن ( المُقرض / أصحاب الأموال / المُرابين )، والطرف الثاني: المؤمَّن له ( صاحب السفينة ) .
2) العين المُؤَمَّنة ( السفينة والبضائع التي عليها ) .
3) الخطر المُؤَمَّنُ ضده ( الغرق ) .
4) قسط التأمين ( الفوائد الربوية التي يدفعها صاحب السفينة للتاجر المرابي في حال وصول السفينة سالمة ) .
5) مبلغ التأمين (مبلغ المال الذي دفعه التاجر المُرابي لصاحب السفينة في حال غرق السفينة ).
هذه الأركان الخمسة متوفرة في عقد القرض البحري، وهي أساس عقود التأمين التجاري. وعمليا ساعد التأمين البحري على توسع وانتشار التجارة الخارجية ( البحرية )، وذلك بتشتيت مخاطرها وتوزيعها بحيث يتحملها عدد كبير من التجار غير مقتصر على الفئة التي تجوب البحار، وقد انتعشت في هذه الحقبة من الزمن ما يمكن أن نسميه بـ: بورصة التأمين، وهي بلا شك نظام ربوي ترفضه الشريعة الإسلامية، بل إن الكنيسة وقفت بقوة ضـد عقد القرض البحري المذكور لاشتماله على الربا وانطوائه على المقامرة، وكلا الأمرين كانت تحرمهما الكنيسة ولا تجيز التعامل بهما.
ونتيجة لحريق لندن الشهير الذي حدث في العام 1666م / 1076هـ والذي أتى على ما يقارب 85 % من مباني المدينة بدأت تظهر أفكار التأمين ضد خطر الحريق ، ثم أخذت تظهر وتتبلور عقود تأمين الحوادث الشخصية و التأمين ضد الأخطار الناجمة عن حوادث السيارات والطيران، لا سيما مع ظهور الآلة الميكانيكية وانتشار المصانع ، وتعدد وتوسع وسائل النقل البري والبحري والجوي ، حتى ظهر التأمين على الحياة الذي لاقى في بداية ظهوره هجوما عنيفا باعتباره مقامرة لا تليق بالكرامة الإنسانية .
وفي القرن السابع عشر الميلادي دخل عقد التأمين البحري إلى دولة الخلافة العثمانية التي سمحت لغير المسلمين المقيمين في أرضها بإبرام عـقود التأمين البحري مع التجار المسلميـن على البضائع المنقولة بحرا، وكان يُطلق عليه حينئذ عقد السوكرتاه ، أو السوكره ، وأصله من الكلمة الإنجليزية : security والتي تعني الأمن .
ورغم بيان بطلان عقود التأمين " التقليدي " أو " التجاري "، وأنـها أكل لأموال الناس بالباطل، إلاّ أنها وبسبب غياب البديل الإسلامي، وبقوة الدعاية التي صاحبتها أخذت في التوسع والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي، التي أخذت بإصدار التشريعات المنظمة لتقنين العملية التأمينية. وأضحى للنشاط التأميني تأثير كبير على مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي توغل بها، وأصبح من الأهمية بمكان أن أصبح ضرورة لا بد منها للتجار ورجال المال والأعمال لتسيير أعمالهم وأنشطتهم وجزأ لا يتجزأ من الدورة الاقتصادية.
ولكن وبالرغم من هذا، ومن نجاح التأمين التجاري في تقريب الخطر الفردي إلى صبغة جماعية تُسَهِلُ تغطية آثاره السلبية على الفرد، إلا أن التأمين بهذا الشكل ظل قاصرا عن تحقيق العدالة بين طرفي عقد التأمين، فالتأمين يحقق فوائد كبيرة لشركة التأمين (المؤمِّن / الطرف الأول) وفائدة أخرى قليلة على مجموع المُؤمِّن لهم (الطرف الثاني ) .
ثالثاً : نشأة التأمين التجاري الحديث :
لا تنفك الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات عادة عن بعضهما البعض، فكلاهما يتأثر بالآخر ويتغير بتغيره، ولقد كان للتغير الاقتصادي الذي واكب انتشار الآلة وتطور الصناعة ونشأة المصارف واستثمار رؤوس الأموال في مشاريع تجارية وصناعية ضخمة لم تكن مألوفة من قبل، وما صاحب ذلك من تطور في الأساليب الزراعية التي أضحت تعتمد على الآلة بعد أن كانت اعتمادها بالدرجة الأولى العنصر البشري ووسائله اليدوية، لقد كانت لهذه القفزة الواسعة والطفرة الاقتصادية أثر كبير في تغيير الحياة الاجتماعية لدى الناس وتغيير أنماط سلوكهم بل وحتى طريقة تفكيرهم .
فمع انتقال رأس المال من عالم الزراعة إلى عالم الصناعة زادت المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها العامل، كما أن انتقال الأفراد من المجتمع الزراعي ذو النزعة الجماعية إلى المجتمع الصناعي ذو النزعة الفردية، انتقل الصراع الذي كان قائما بين أصحاب الإقطاعيات الزراعية مع طبقة المزارعين، انتقل هذا الصراع مع ظهور الآلة وانتشار الصناعة ليصبح بين أصحاب رؤوس الأموال مع طبقة العمال، مما أجبر مُلاّك المصانع على محاولة تحسين ظروف العمل لامتصاص غضب العمال والتخفيف من نقمتهم، فظهرت صور تأمين العمال المختلفة، كتأمين إصابات العمل والحوادث الشخصية وتأمين ضد خطر الحريق وتأمين ضد أخطار المقاولين وأخطار التركيب ...الخ، وكذلك التأمينات التي أعقبت تطور وسائل النقل بشتى صورها وازدياد مخاطرها سواء على ذات وسائل النقل أو على ركابها .
وهذا التطور الصناعي والتجاري، وانتقال رؤوس الأموال من الزراعة إلى التجارة أدى إلى تغير التركيبة الاجتماعية التي نتج عنها انتصار النـزعة الفردية التي حلّت محل الأسرة التي تفككت وانحلت روابطها، وبالتالي فقد الفرد شعوره بالأمن الاجتماعي الذي كان يتولد لديه من خلال تواجده في نظام أسري واجتماعي مترابط، فكان لا بد من إنشاء نظام التأمين الذي حلَّ محلَّ التكاتف الأسرى والتكافل الاجتماعي البائدين، فكانت ولادة التأمين الاجتماعي من رحم التطور الصناعي والتجاري .
كما وأدى هذا التحول الاقتصادي إلى تعاظم المخاطر المحيطة بالفرد، فالمخاطر التي كانت تحدق بالفرد قبل أن تحل أدوات الإنتاج الآلي محل أدوات الإنتاج اليدوية التي كانت مخاطرها محدودة بسبب بساطة وسهولة أدوات العمل والإنتاج اليدوية، أما وقد تطورت أساليب العمل والإنتاج بظهور الآلة وانتشار المعامل والمصانع، وتطور وسائل النقل بأنواعه البري والبحري والجوي، وتطور وسائل حفظ ونقل الأموال، وغير ذلك من أدوات النمو الصناعي والتجاري، فقد تزايدت أهمية التأمين بقدر هذا التطور وترتب على ذلك زيادة في المخاطر التي يتعرض لها الفرد والمجتمع .
كما كان لطغيان المادة واضمحلال الإيمان في نفوس الناس ـ لا سيما بعد الصراع العنيف بين الكنيسة والعلم ـ أثر كبير في انتشار مشاعر نفسية سلبية مجملها الخوف والرهبة مما يحمله المستقبل من مخاطر الفقر والوحدة والشيخوخة وأمراضها (هوس تأمين المستقبل )، فأثمر ذلك كله في ازدهار صناعة التأمين التي رمى الإنسان بكامل ثـقله عليها لحمايته من مفاجآت الدهر وتقلباته .
وهكذا نجد أنه كلما زادت حاجة الإنسان إلى الحماية والأمان من مخاطر جدَّت يخشى منها على نفسه وأمواله، كلما تطورت فكرة التأمين تبعا لتلك الحاجة، فكان أن نشأ نظام التأمين وتبلورت صورته النظرية التي لبست أزهى الحلل واستعملت أجمل الألفاظ وادعت أن أهداف التأمين هي الاحتياط للمستقبل والاستعداد للكوارث قبل وقوعها والتقليل من حدة الأخطار والتخفيف من آثارها، والحقيقة أن هدفهم الأساسي من التأمين هو الإثراء، ولمزيد من البريق واللمعان ربط أساطين التأمين العملية التأمينية نظام التأمين بمجموعة من المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والرياضية ـ الحسابية ـ التي عكست نفسها في عدد من التعاريف التي قيلت في التأمين التجاري، وفي نفس الوقت اتخذوا منها مبررات لتقنين نظام التأمين التجاري .
أولاً : نشأة فكرة التأمين
لقد عرفت البشرية نظام التأمين منذ قِدَمِ التاريخ، وذلك في صورة التكافل والتعاون بين أفراد المجموعة الواحدة لمواجهة التكاليف المالية التي تترتب عند وقع ضرر وحدوث خطر ما على فرد منها، وهذه التبعة المالية ثقيلة ومرهقة بالنسبة للفرد الواحد، خفيفة ومقبولة إذا وزعت على مجموع الأفراد، .وهذا النظام الإنساني يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، فالمؤرخ ابن خلدون ذكر في "مقدمته" أن التجار العرب الذين كانوا يُسيّرون قوافلهم التجارية في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن، كانوا يتفقون فيما بينهم على اقتسام الخسارة التي تلحق أيًّا منهم نتيجة نفـوق ـ موت ـ جمله، فيقومون بتوزيع الخسارة على كافة أعضاء القافلة. وجميع صور للتأمين كانت تعتمد مبدأ التكافل كأساس، وليس مبدأ الربح كما هو الحال في التأمين التجاري المعمول به في صورته الحالية .
ثانيا : بداية الانحراف
يذكر التاريخ أن التأمين البحري أو ما كان يُعرف بـ "القرض البحري" هو أول شكل ونوع من أنواع التأمين الربحي ( التجاري )، وصورته: أن يقوم صاحب المال المرابي بإقراض صاحب سفينة تعزم على الإبحار مبلغاً من المال يوازي قيمة السفينة وما تحمله من بضائع، وذلك نظير فوائد ربوية، فإذا وصلت السفينة سالمة إلى غايتها، رَدَّ صاحب السفينة القرض إلى المرابي مع فوائده الربوية، وإذا هلكت السفينة وما عليها من بضائع، خسر المرابي نقوده التي أقرضها مالك السفينة .
ويلاحظ أن عقد التأمين التجاري المعمول به حاليا نشأ وانطلق من عقد القرض البحري، فأركان العملية التأمينية في نظام التأمين التجاري الحالي، وهي:
1) وجود طرفي العقد، الطرف الأول: المؤمِّن ( المُقرض / أصحاب الأموال / المُرابين )، والطرف الثاني: المؤمَّن له ( صاحب السفينة ) .
2) العين المُؤَمَّنة ( السفينة والبضائع التي عليها ) .
3) الخطر المُؤَمَّنُ ضده ( الغرق ) .
4) قسط التأمين ( الفوائد الربوية التي يدفعها صاحب السفينة للتاجر المرابي في حال وصول السفينة سالمة ) .
5) مبلغ التأمين (مبلغ المال الذي دفعه التاجر المُرابي لصاحب السفينة في حال غرق السفينة ).
هذه الأركان الخمسة متوفرة في عقد القرض البحري، وهي أساس عقود التأمين التجاري. وعمليا ساعد التأمين البحري على توسع وانتشار التجارة الخارجية ( البحرية )، وذلك بتشتيت مخاطرها وتوزيعها بحيث يتحملها عدد كبير من التجار غير مقتصر على الفئة التي تجوب البحار، وقد انتعشت في هذه الحقبة من الزمن ما يمكن أن نسميه بـ: بورصة التأمين، وهي بلا شك نظام ربوي ترفضه الشريعة الإسلامية، بل إن الكنيسة وقفت بقوة ضـد عقد القرض البحري المذكور لاشتماله على الربا وانطوائه على المقامرة، وكلا الأمرين كانت تحرمهما الكنيسة ولا تجيز التعامل بهما.
ونتيجة لحريق لندن الشهير الذي حدث في العام 1666م / 1076هـ والذي أتى على ما يقارب 85 % من مباني المدينة بدأت تظهر أفكار التأمين ضد خطر الحريق ، ثم أخذت تظهر وتتبلور عقود تأمين الحوادث الشخصية و التأمين ضد الأخطار الناجمة عن حوادث السيارات والطيران، لا سيما مع ظهور الآلة الميكانيكية وانتشار المصانع ، وتعدد وتوسع وسائل النقل البري والبحري والجوي ، حتى ظهر التأمين على الحياة الذي لاقى في بداية ظهوره هجوما عنيفا باعتباره مقامرة لا تليق بالكرامة الإنسانية .
وفي القرن السابع عشر الميلادي دخل عقد التأمين البحري إلى دولة الخلافة العثمانية التي سمحت لغير المسلمين المقيمين في أرضها بإبرام عـقود التأمين البحري مع التجار المسلميـن على البضائع المنقولة بحرا، وكان يُطلق عليه حينئذ عقد السوكرتاه ، أو السوكره ، وأصله من الكلمة الإنجليزية : security والتي تعني الأمن .
ورغم بيان بطلان عقود التأمين " التقليدي " أو " التجاري "، وأنـها أكل لأموال الناس بالباطل، إلاّ أنها وبسبب غياب البديل الإسلامي، وبقوة الدعاية التي صاحبتها أخذت في التوسع والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي، التي أخذت بإصدار التشريعات المنظمة لتقنين العملية التأمينية. وأضحى للنشاط التأميني تأثير كبير على مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي توغل بها، وأصبح من الأهمية بمكان أن أصبح ضرورة لا بد منها للتجار ورجال المال والأعمال لتسيير أعمالهم وأنشطتهم وجزأ لا يتجزأ من الدورة الاقتصادية.
ولكن وبالرغم من هذا، ومن نجاح التأمين التجاري في تقريب الخطر الفردي إلى صبغة جماعية تُسَهِلُ تغطية آثاره السلبية على الفرد، إلا أن التأمين بهذا الشكل ظل قاصرا عن تحقيق العدالة بين طرفي عقد التأمين، فالتأمين يحقق فوائد كبيرة لشركة التأمين (المؤمِّن / الطرف الأول) وفائدة أخرى قليلة على مجموع المُؤمِّن لهم (الطرف الثاني ) .
ثالثاً : نشأة التأمين التجاري الحديث :
لا تنفك الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات عادة عن بعضهما البعض، فكلاهما يتأثر بالآخر ويتغير بتغيره، ولقد كان للتغير الاقتصادي الذي واكب انتشار الآلة وتطور الصناعة ونشأة المصارف واستثمار رؤوس الأموال في مشاريع تجارية وصناعية ضخمة لم تكن مألوفة من قبل، وما صاحب ذلك من تطور في الأساليب الزراعية التي أضحت تعتمد على الآلة بعد أن كانت اعتمادها بالدرجة الأولى العنصر البشري ووسائله اليدوية، لقد كانت لهذه القفزة الواسعة والطفرة الاقتصادية أثر كبير في تغيير الحياة الاجتماعية لدى الناس وتغيير أنماط سلوكهم بل وحتى طريقة تفكيرهم .
فمع انتقال رأس المال من عالم الزراعة إلى عالم الصناعة زادت المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها العامل، كما أن انتقال الأفراد من المجتمع الزراعي ذو النزعة الجماعية إلى المجتمع الصناعي ذو النزعة الفردية، انتقل الصراع الذي كان قائما بين أصحاب الإقطاعيات الزراعية مع طبقة المزارعين، انتقل هذا الصراع مع ظهور الآلة وانتشار الصناعة ليصبح بين أصحاب رؤوس الأموال مع طبقة العمال، مما أجبر مُلاّك المصانع على محاولة تحسين ظروف العمل لامتصاص غضب العمال والتخفيف من نقمتهم، فظهرت صور تأمين العمال المختلفة، كتأمين إصابات العمل والحوادث الشخصية وتأمين ضد خطر الحريق وتأمين ضد أخطار المقاولين وأخطار التركيب ...الخ، وكذلك التأمينات التي أعقبت تطور وسائل النقل بشتى صورها وازدياد مخاطرها سواء على ذات وسائل النقل أو على ركابها .
وهذا التطور الصناعي والتجاري، وانتقال رؤوس الأموال من الزراعة إلى التجارة أدى إلى تغير التركيبة الاجتماعية التي نتج عنها انتصار النـزعة الفردية التي حلّت محل الأسرة التي تفككت وانحلت روابطها، وبالتالي فقد الفرد شعوره بالأمن الاجتماعي الذي كان يتولد لديه من خلال تواجده في نظام أسري واجتماعي مترابط، فكان لا بد من إنشاء نظام التأمين الذي حلَّ محلَّ التكاتف الأسرى والتكافل الاجتماعي البائدين، فكانت ولادة التأمين الاجتماعي من رحم التطور الصناعي والتجاري .
كما وأدى هذا التحول الاقتصادي إلى تعاظم المخاطر المحيطة بالفرد، فالمخاطر التي كانت تحدق بالفرد قبل أن تحل أدوات الإنتاج الآلي محل أدوات الإنتاج اليدوية التي كانت مخاطرها محدودة بسبب بساطة وسهولة أدوات العمل والإنتاج اليدوية، أما وقد تطورت أساليب العمل والإنتاج بظهور الآلة وانتشار المعامل والمصانع، وتطور وسائل النقل بأنواعه البري والبحري والجوي، وتطور وسائل حفظ ونقل الأموال، وغير ذلك من أدوات النمو الصناعي والتجاري، فقد تزايدت أهمية التأمين بقدر هذا التطور وترتب على ذلك زيادة في المخاطر التي يتعرض لها الفرد والمجتمع .
كما كان لطغيان المادة واضمحلال الإيمان في نفوس الناس ـ لا سيما بعد الصراع العنيف بين الكنيسة والعلم ـ أثر كبير في انتشار مشاعر نفسية سلبية مجملها الخوف والرهبة مما يحمله المستقبل من مخاطر الفقر والوحدة والشيخوخة وأمراضها (هوس تأمين المستقبل )، فأثمر ذلك كله في ازدهار صناعة التأمين التي رمى الإنسان بكامل ثـقله عليها لحمايته من مفاجآت الدهر وتقلباته .
وهكذا نجد أنه كلما زادت حاجة الإنسان إلى الحماية والأمان من مخاطر جدَّت يخشى منها على نفسه وأمواله، كلما تطورت فكرة التأمين تبعا لتلك الحاجة، فكان أن نشأ نظام التأمين وتبلورت صورته النظرية التي لبست أزهى الحلل واستعملت أجمل الألفاظ وادعت أن أهداف التأمين هي الاحتياط للمستقبل والاستعداد للكوارث قبل وقوعها والتقليل من حدة الأخطار والتخفيف من آثارها، والحقيقة أن هدفهم الأساسي من التأمين هو الإثراء، ولمزيد من البريق واللمعان ربط أساطين التأمين العملية التأمينية نظام التأمين بمجموعة من المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والرياضية ـ الحسابية ـ التي عكست نفسها في عدد من التعاريف التي قيلت في التأمين التجاري، وفي نفس الوقت اتخذوا منها مبررات لتقنين نظام التأمين التجاري .