قد كانت مصر كعادتها سابقة فى طرح مفهوم المصارف الإسلامية منذ عام 1963 ولكنها للأسف لم تواصل المسيرة وسبقتها دول إسلامية عديدة، فى مقدمتها ماليزيا والبحرين وباكستان وإندونيسيا بل دول غير إسلامية فتحت نوافذ فى البنوك التقليدية للتعامل فى المنتجات الإسلامية للتمويل. والتمويل الإسلامى هو أحد أوجه التمويل لعمليات التنمية منذ فجر الإسلام، ولذلك كان أحد الأبواب الرئيسة فى الفقه الإسلامى ما يتعلق على المعاملات، والتى من بينها ما يتصل بالتمويل والاقتصاد وأعمال التنمية، وبرع الفقهاء المسلمون فى هذا الصدد خاصة أن عملية الإعمار فى الأرض هى إحدى الغايات الرئيسة لخلق الإنسان فى هذا الكون، كما جاء فى قوله تعالى فى سورة البقرة " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" الآية (20) وقوله تعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" البقرة آية (31) .
وخلافة آدم أبو البشر اعتمدت على ثلاثة أهداف مهمة:
الأول: إعمار الكون من خلال تطوير العلوم والتكنولوجيا
الثانى: التدبر فى مخلوقات الله العليا والدنيا لقوله تعالى وَفِى الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 20-23] وعشرات الآيات التى تدعو للتفكر فى الكون وتكوينه والكواكب وغيرها.
الثالث: العبادة بمفهومها الشامل الذى يجعل كل عمل يقصد به وجه الله والتقرب إليه هو عبادة وليس مجرد الشعائر أو ما يطلق عليه العبادات.
ولقد وضع الإسلام ثلاث قواعد رئيسية فى التعاملات فى النقود أو بعبارة أخرى الأموال والموارد الاقتصادية وهى:
الأولى: أنها ملك لله من حيث الخلق والإيجاد، وهى ملك للبشر جميعا من حيث المنفعة، وهى مللك للفرد العامل المجد المنتج كما ورد فى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء فى ثلاث الماء والكلأ والنار".
الثانية: عدم استغلال حاجة المحتاجين كما كان يحدث فى الجاهلية بالحصول على الربا، ولذلك قال الله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" سورة البقرة الآية (275).
الثالثة: إطلاق الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة بما لا يؤثر على سلامة المجتمع ومبادئ العدالة الاجتماعية التى تمثل أسس الفكر الإسلامى.
ولن نتناول تاريخ تطور المصارف الإسلامية، وإنما سوف نركز على معالمها الرئيسة ومنتجاتها التمويلية، وبخاصة الصكوك الإسلامية.
1- إن الاقتصاد الإسلامى التقليدى قائم على أساس التجارة، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم "تسعة أعشار الرزق فى التجارة"، وكان هذا القول منطقيا فى العصور القديمة، لأن العرب كانوا تجاراً، كما جاء فى سورة قريش "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف".
2- إن الفتوحات الإسلامية لدول الحضارات العريقة ومن بينها مصر وأرض الرافدين وفارس والشام أدخلت مصطلحات جديدة فى الاقتصاد الإسلامى، وبخاصة مفهوم" الخراج" الذى افرد له الفقهاء أبوابا مهمة فى الفقه الإسلامى.
3- إن التطور الاقتصادى منذ عصر النهضة الأوروبية، أدخل النقود بمفهومها المعاصر، والبنوك كأداة من أدوات التمويل، فى حين كانت النقود فى بداية ظهور الإسلام ولفترة طويلة قائمة على "الذهب والفضة"، وأوضح القرآن الكريم، أن هذه الأموال هى ملك للأفراد بهدف استثمارها والإنفاق منها وحذر من اكتنازها بقوله: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" التوبة الآية (34)، إذ إن مفهوم الاستثمار والتنمية هو استكمال طبيعى، ودعوة إلهية لتطوير الاقتصاد وللدول الإسلامية وللشعوب الإسلامية.
4- لقد تطورت البنوك والمشتقات المالية الحديثة عما كانت عليه أدوات التمويل التقليدية فى الاقتصاد الإسلامى، مثل المضاربة و الاستصناع والمرابحة والإجارة والسلم الذى هو بيع آجل بعاجل، حيث يدفع الثمن ثم يتم تسليم السلعة فى مرحل لاحقة وغيرها.
5- اقتضى التطور المصرفى الحديث ظهور مشتقات جديدة وهو ما يمكن الأخذ به ما دام يتماشى مع الشروط الأساسية للتعامل المالى الإسلامى وفى مقدمة تلك الشروط ما يلى:
6- عدم الربا المحرم كما أوضحه الفقهاء القدامى وكما اجتهد فيه الفقهاء المحدثون، ومحوره زيادة المال من نفس الصنف نتيجة استغلال حاجة المحتاجين على غرار ما كان الأمر فى الجاهلية ومن ذلك ربا العباس عم النبى صلى الله وسلم، ومن المجتهدين المحدثين فضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت وكذلك فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى فى كتابه المشهور باسم "المعاملات فى الإسلام" والذى درس فيه باستفاضة موقف البنوك وطريقة تعاملاتها سواء البنوك التقليدية أو البنوك الإسلامية.
7- الاستفادة من مختلف الصناعات الحديثة وأوجه الاستثمار لسد حاجة البلاد الإسلامية، طالما لا يتم الاستثمار فى عمل يتناقض مع الإسلام مثل صناعات أو بيع الخمور، أو لحم الخنزير وما شابه ذلك من التجارة والصناعة فى السلع المحرمة إسلامياً أو قانونياً.
8-وضع الحدود والضوابط للاستثمار وللربح بما لا يؤدى إلى الاحتكار المرفوض إسلاميا.
9- برزت الصكوك التى تصدرها المصارف والبنوك الإسلامية كأحد أهم أدوات التمويل الإسلامى، ولذلك حملت مصطلح الصكوك الإسلامية، وهى مثل السندات أو الأسهم فى البنوك التقليدية ولها ضوابط فى مقدمتها:
الأول: وجود هيئة شرعية تدرس هدف إصدار الصكوك بما لا يتعارض مع الأهداف الإسلامية السابق الإشارة إليها.
الثانى: عدم استخدامها فى بيوع مجهولة الهوية أو المحرمة وتركيزها على الاستثمار بعد دراسة الجدوى الاقتصادية، ومع التركيز على السلع العينية.
الثالث: استخدامها فى إنتاج الثروة أى الاستثمار وليس فى توزيع الثروة، أو فى سداد موازين المدفوعات أو شراء الاحتياجات الاستهلاكية، وذلك لصعوبة سدادها وعدم توافر ضمانات الحفاظ عليها أو تحقيق الأرباح.
وقد درست "هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية" المشتقات المالية الحديثة، ووضعت ضوابط تنظيمية خاصة ما يتعلق بالمستندات أى الصكوك الإسلامية، وكما هو معروف فإن الصكوك أنواع فهناك صكوك المضاربة، وصكوك المشاركة، وصكوك الإجارة ونحو ذلك، والضوابط الخاصة بذلك، تنبع من تقييم عنصر المخاطرة، ومن المعروف أنه كلما زادت المخاطرة زادت الأرباح، ولكن المخاطرة العالية قد تؤدى إلى فقدان رأس المال أو جزء منه، هنا من الضرورى التدقيق فى ظروف ومناخ الاستثمار وإصدار الصكوك للتمويل فى أعمال التنمية.
ولقد كان من أهم الدول الإسلامية التى أصدرت صكوكا لتمويل عمليات التنمية ماليزيا، وهى من أكثر الدول تطورا فى مجال أدوات الصيرفة الإسلامية، ومملكة البحرين، تمثل تجمعا رئيسا من تجمعات البنوك الإسلامية، وتسعى إمارة دبى لتكون مركزا هاما فى ذلك.
ومن هنا فإن التوجه المصرى نحو إصدار صكوك إسلامية هو توجه سليم ومنطقى، فى ظل الحاجة الماسة لتمويل أعمال التنمية، ولكن من المهم توافر المناخ الاستثمارى الآمن، والضمانات للحفاظ على الأموال، ودراسات الجدوى، وعدم تدخل المآرب السياسية فى القرار الاقتصادى، الذى ينبغى أن يخضع لقرار المختصين فى المجالات الاقتصادية والرقابة المحاسبية من الهيئات التى تم إنشاؤها فى الدول الإسلامية المتقدمة فى مجال الصيرفة الإسلامية مثل ماليزيا والبحرين وباكستان وإندونيسيا.
ولقد عانت المصارف الإسلامية بدرجة أقل من المصارف التقليدية جراء الأزمة المالية التى أطاحت بعدة بنوك فى الولايات المتحدة منذ عام 2008 لعدم تدقيقها فى أوجه الإنفاق وتركيزها على المضاربة فى التمويل العقارى، بدون ضمانات كافية، ولذلك ينبغى أن ننبه أصحاب القرار فى مجال النقود والبنوك والاستثمار لهذا الأمر، وللدور المحورى الذى يجب أن يتولاه البنك المركزى فى هذا الصدد.
إن الصكوك الإسلامية عانت من جراء الأزمة المالية، وواجهت إندونيسيا بوجه خاص هذه المشكلة، ولكن هذا لا ينبغى أن يجعلنا نعزف عن إصدار صكوك التنمية، طالما تم توفير الضمانات اللازمة والقواعد والضوابط من البنك المركزى، ولقد سبقتنا العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية فى إصدار صكوك إسلامية، ففرنسا على سبيل المثال أصدرت صكوكاً إسلامية لتمويل مشروعات لديها بمبلغ 1.2 مليار دولار عام 2009 وماليزيا أصدرت فى نفس العام صكوكاً بحوالى خمسة مليارات دولار.
إنه لا ينبغى المبالغة أو التخوف من تملك بعض الأجانب أو تملك غير المسلمين للصكوك الإسلامية أو حتى الأطراف طالما لا يعادون المسلمين معاداة ظاهرة وحقيقية، إن العبرة بعائد التنمية، وليس بالشكل، ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقترض من اليهود فى المدينة، ومات ودرع له مرهون لدى يهودى، كما تذكر السيرة النبوية، فالتركيز على الجوهر وليس على الشكل الذى يتطور مع تطور أدوات ومشتقات والصيرفة الحديثة، ما دام لا يتعارض مع مبدأ أساسى من مبادئ الشريعة الإسلامية.
إننا نختتم هذا المقال الموجز بإبراز سبع حقائق مهمة وهى:
الأولى: إن مصر فى حاجة إلى تمويل عمليات التنمية وهذه التنمية هى محور التطور الاقتصادى المعاصر لتحقيق انطلاقة اقتصادية ومعالجة مشكلة البطالة.
الثانية: إن لدى بعض الدول الإسلامية وبخاصة دول البترول أموالا ضخمة يتم استثمارها فى المصارف الأجنبية، وهى على استعداد لاستخدامها فى التمويل الإسلامى للتنمية فى مصر، بضمانات اقتصادية، وتوافر المناخ الأمنى والقانونى وهذا من الأمور المنطقية فى التعاملات المالية والاقتصادية.
الثالثة: إن لدى بعض المصريين بالخارج أموالا كثيرة، وهم يحرصون على استثمارها فى بلدهم، ولكنهم لن يقدموها بدون ضمانات فهى أموال عانوا الصعاب من أجل الحصول عليها.
الرابعة: أهمية وجود توافق مجتمعى لعمليات التنمية والتمويل مع وجود شفافية تامة فى هذا الصدد.
الخامسة: إن البنوك المصرية عليها تطوير مواردها البشرية، وتحسين أسلوب التعامل مع العملاء.
السادسة: توضيح أوجه الصرف بما يتماشى مع المفهوم المرن والاجتهادات الفقهية الحديثة، وعدم حشر الفكر الاقتصادى فى المفاهيم الإسلامية التقليدية، لأن مشاكل الاقتصاد الحديث تختلف عن مشاكل الاقتصاد فى بداية نشأة الإسلام أو فى العصر العباسى الذى ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامى المتطور والمذاهب الفقهية الإسلامية.
السابعة: أهمية تفكير المسلمين بمنظور العمل التراكمى فى الاقتصاد، وفى الإدارة وفى السياسة وغيرها من المجالات، ولا يعمل كل مسئول على هدم إنجازات من سبقوه لمجرد الكيد، ولقد انهارت الحضارة الإسلامية العظيمة وخضعت الدول الإسلامية للاستعمار الأجنبى، عندما انتشرت البغضاء والشحناء بين دولها، والانغلاق الفكرى بين علمائها والفجوة بين الفكر العلمى والممارسات السياسية لرجال الدولة فى العصور الوسطى وحتى العصر الحديث.
الأول: إعمار الكون من خلال تطوير العلوم والتكنولوجيا
الثانى: التدبر فى مخلوقات الله العليا والدنيا لقوله تعالى وَفِى الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 20-23] وعشرات الآيات التى تدعو للتفكر فى الكون وتكوينه والكواكب وغيرها.
الثالث: العبادة بمفهومها الشامل الذى يجعل كل عمل يقصد به وجه الله والتقرب إليه هو عبادة وليس مجرد الشعائر أو ما يطلق عليه العبادات.
ولقد وضع الإسلام ثلاث قواعد رئيسية فى التعاملات فى النقود أو بعبارة أخرى الأموال والموارد الاقتصادية وهى:
الأولى: أنها ملك لله من حيث الخلق والإيجاد، وهى ملك للبشر جميعا من حيث المنفعة، وهى مللك للفرد العامل المجد المنتج كما ورد فى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء فى ثلاث الماء والكلأ والنار".
الثانية: عدم استغلال حاجة المحتاجين كما كان يحدث فى الجاهلية بالحصول على الربا، ولذلك قال الله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" سورة البقرة الآية (275).
الثالثة: إطلاق الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة بما لا يؤثر على سلامة المجتمع ومبادئ العدالة الاجتماعية التى تمثل أسس الفكر الإسلامى.
ولن نتناول تاريخ تطور المصارف الإسلامية، وإنما سوف نركز على معالمها الرئيسة ومنتجاتها التمويلية، وبخاصة الصكوك الإسلامية.
1- إن الاقتصاد الإسلامى التقليدى قائم على أساس التجارة، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم "تسعة أعشار الرزق فى التجارة"، وكان هذا القول منطقيا فى العصور القديمة، لأن العرب كانوا تجاراً، كما جاء فى سورة قريش "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف".
2- إن الفتوحات الإسلامية لدول الحضارات العريقة ومن بينها مصر وأرض الرافدين وفارس والشام أدخلت مصطلحات جديدة فى الاقتصاد الإسلامى، وبخاصة مفهوم" الخراج" الذى افرد له الفقهاء أبوابا مهمة فى الفقه الإسلامى.
3- إن التطور الاقتصادى منذ عصر النهضة الأوروبية، أدخل النقود بمفهومها المعاصر، والبنوك كأداة من أدوات التمويل، فى حين كانت النقود فى بداية ظهور الإسلام ولفترة طويلة قائمة على "الذهب والفضة"، وأوضح القرآن الكريم، أن هذه الأموال هى ملك للأفراد بهدف استثمارها والإنفاق منها وحذر من اكتنازها بقوله: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" التوبة الآية (34)، إذ إن مفهوم الاستثمار والتنمية هو استكمال طبيعى، ودعوة إلهية لتطوير الاقتصاد وللدول الإسلامية وللشعوب الإسلامية.
4- لقد تطورت البنوك والمشتقات المالية الحديثة عما كانت عليه أدوات التمويل التقليدية فى الاقتصاد الإسلامى، مثل المضاربة و الاستصناع والمرابحة والإجارة والسلم الذى هو بيع آجل بعاجل، حيث يدفع الثمن ثم يتم تسليم السلعة فى مرحل لاحقة وغيرها.
5- اقتضى التطور المصرفى الحديث ظهور مشتقات جديدة وهو ما يمكن الأخذ به ما دام يتماشى مع الشروط الأساسية للتعامل المالى الإسلامى وفى مقدمة تلك الشروط ما يلى:
6- عدم الربا المحرم كما أوضحه الفقهاء القدامى وكما اجتهد فيه الفقهاء المحدثون، ومحوره زيادة المال من نفس الصنف نتيجة استغلال حاجة المحتاجين على غرار ما كان الأمر فى الجاهلية ومن ذلك ربا العباس عم النبى صلى الله وسلم، ومن المجتهدين المحدثين فضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت وكذلك فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى فى كتابه المشهور باسم "المعاملات فى الإسلام" والذى درس فيه باستفاضة موقف البنوك وطريقة تعاملاتها سواء البنوك التقليدية أو البنوك الإسلامية.
7- الاستفادة من مختلف الصناعات الحديثة وأوجه الاستثمار لسد حاجة البلاد الإسلامية، طالما لا يتم الاستثمار فى عمل يتناقض مع الإسلام مثل صناعات أو بيع الخمور، أو لحم الخنزير وما شابه ذلك من التجارة والصناعة فى السلع المحرمة إسلامياً أو قانونياً.
8-وضع الحدود والضوابط للاستثمار وللربح بما لا يؤدى إلى الاحتكار المرفوض إسلاميا.
9- برزت الصكوك التى تصدرها المصارف والبنوك الإسلامية كأحد أهم أدوات التمويل الإسلامى، ولذلك حملت مصطلح الصكوك الإسلامية، وهى مثل السندات أو الأسهم فى البنوك التقليدية ولها ضوابط فى مقدمتها:
الأول: وجود هيئة شرعية تدرس هدف إصدار الصكوك بما لا يتعارض مع الأهداف الإسلامية السابق الإشارة إليها.
الثانى: عدم استخدامها فى بيوع مجهولة الهوية أو المحرمة وتركيزها على الاستثمار بعد دراسة الجدوى الاقتصادية، ومع التركيز على السلع العينية.
الثالث: استخدامها فى إنتاج الثروة أى الاستثمار وليس فى توزيع الثروة، أو فى سداد موازين المدفوعات أو شراء الاحتياجات الاستهلاكية، وذلك لصعوبة سدادها وعدم توافر ضمانات الحفاظ عليها أو تحقيق الأرباح.
وقد درست "هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية" المشتقات المالية الحديثة، ووضعت ضوابط تنظيمية خاصة ما يتعلق بالمستندات أى الصكوك الإسلامية، وكما هو معروف فإن الصكوك أنواع فهناك صكوك المضاربة، وصكوك المشاركة، وصكوك الإجارة ونحو ذلك، والضوابط الخاصة بذلك، تنبع من تقييم عنصر المخاطرة، ومن المعروف أنه كلما زادت المخاطرة زادت الأرباح، ولكن المخاطرة العالية قد تؤدى إلى فقدان رأس المال أو جزء منه، هنا من الضرورى التدقيق فى ظروف ومناخ الاستثمار وإصدار الصكوك للتمويل فى أعمال التنمية.
ولقد كان من أهم الدول الإسلامية التى أصدرت صكوكا لتمويل عمليات التنمية ماليزيا، وهى من أكثر الدول تطورا فى مجال أدوات الصيرفة الإسلامية، ومملكة البحرين، تمثل تجمعا رئيسا من تجمعات البنوك الإسلامية، وتسعى إمارة دبى لتكون مركزا هاما فى ذلك.
ومن هنا فإن التوجه المصرى نحو إصدار صكوك إسلامية هو توجه سليم ومنطقى، فى ظل الحاجة الماسة لتمويل أعمال التنمية، ولكن من المهم توافر المناخ الاستثمارى الآمن، والضمانات للحفاظ على الأموال، ودراسات الجدوى، وعدم تدخل المآرب السياسية فى القرار الاقتصادى، الذى ينبغى أن يخضع لقرار المختصين فى المجالات الاقتصادية والرقابة المحاسبية من الهيئات التى تم إنشاؤها فى الدول الإسلامية المتقدمة فى مجال الصيرفة الإسلامية مثل ماليزيا والبحرين وباكستان وإندونيسيا.
ولقد عانت المصارف الإسلامية بدرجة أقل من المصارف التقليدية جراء الأزمة المالية التى أطاحت بعدة بنوك فى الولايات المتحدة منذ عام 2008 لعدم تدقيقها فى أوجه الإنفاق وتركيزها على المضاربة فى التمويل العقارى، بدون ضمانات كافية، ولذلك ينبغى أن ننبه أصحاب القرار فى مجال النقود والبنوك والاستثمار لهذا الأمر، وللدور المحورى الذى يجب أن يتولاه البنك المركزى فى هذا الصدد.
إن الصكوك الإسلامية عانت من جراء الأزمة المالية، وواجهت إندونيسيا بوجه خاص هذه المشكلة، ولكن هذا لا ينبغى أن يجعلنا نعزف عن إصدار صكوك التنمية، طالما تم توفير الضمانات اللازمة والقواعد والضوابط من البنك المركزى، ولقد سبقتنا العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية فى إصدار صكوك إسلامية، ففرنسا على سبيل المثال أصدرت صكوكاً إسلامية لتمويل مشروعات لديها بمبلغ 1.2 مليار دولار عام 2009 وماليزيا أصدرت فى نفس العام صكوكاً بحوالى خمسة مليارات دولار.
إنه لا ينبغى المبالغة أو التخوف من تملك بعض الأجانب أو تملك غير المسلمين للصكوك الإسلامية أو حتى الأطراف طالما لا يعادون المسلمين معاداة ظاهرة وحقيقية، إن العبرة بعائد التنمية، وليس بالشكل، ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقترض من اليهود فى المدينة، ومات ودرع له مرهون لدى يهودى، كما تذكر السيرة النبوية، فالتركيز على الجوهر وليس على الشكل الذى يتطور مع تطور أدوات ومشتقات والصيرفة الحديثة، ما دام لا يتعارض مع مبدأ أساسى من مبادئ الشريعة الإسلامية.
إننا نختتم هذا المقال الموجز بإبراز سبع حقائق مهمة وهى:
الأولى: إن مصر فى حاجة إلى تمويل عمليات التنمية وهذه التنمية هى محور التطور الاقتصادى المعاصر لتحقيق انطلاقة اقتصادية ومعالجة مشكلة البطالة.
الثانية: إن لدى بعض الدول الإسلامية وبخاصة دول البترول أموالا ضخمة يتم استثمارها فى المصارف الأجنبية، وهى على استعداد لاستخدامها فى التمويل الإسلامى للتنمية فى مصر، بضمانات اقتصادية، وتوافر المناخ الأمنى والقانونى وهذا من الأمور المنطقية فى التعاملات المالية والاقتصادية.
الثالثة: إن لدى بعض المصريين بالخارج أموالا كثيرة، وهم يحرصون على استثمارها فى بلدهم، ولكنهم لن يقدموها بدون ضمانات فهى أموال عانوا الصعاب من أجل الحصول عليها.
الرابعة: أهمية وجود توافق مجتمعى لعمليات التنمية والتمويل مع وجود شفافية تامة فى هذا الصدد.
الخامسة: إن البنوك المصرية عليها تطوير مواردها البشرية، وتحسين أسلوب التعامل مع العملاء.
السادسة: توضيح أوجه الصرف بما يتماشى مع المفهوم المرن والاجتهادات الفقهية الحديثة، وعدم حشر الفكر الاقتصادى فى المفاهيم الإسلامية التقليدية، لأن مشاكل الاقتصاد الحديث تختلف عن مشاكل الاقتصاد فى بداية نشأة الإسلام أو فى العصر العباسى الذى ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامى المتطور والمذاهب الفقهية الإسلامية.
السابعة: أهمية تفكير المسلمين بمنظور العمل التراكمى فى الاقتصاد، وفى الإدارة وفى السياسة وغيرها من المجالات، ولا يعمل كل مسئول على هدم إنجازات من سبقوه لمجرد الكيد، ولقد انهارت الحضارة الإسلامية العظيمة وخضعت الدول الإسلامية للاستعمار الأجنبى، عندما انتشرت البغضاء والشحناء بين دولها، والانغلاق الفكرى بين علمائها والفجوة بين الفكر العلمى والممارسات السياسية لرجال الدولة فى العصور الوسطى وحتى العصر الحديث.